وقد شبه
أبو علي الروذباري المحبة من العبادة بالرأس من جسد الطائر، وشبه الخوف والرجاء بالجناحين، فهم أولاً أتوا برأس الأمر، وهو التقرب إلى الله تبارك وتعالى ومحبته، ثم أتوا بالجناحين، فكانوا يرجون رحمته ويخافون عذابه، ثم أكد تعالى الخوف منه فقال: ((
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ))[الإسراء:57].وفي هذا تنبيه على أنه مهما بلغ العبد في التقرب والمحبة لا يصح ولا يجوز له أن ينسى الحذر والخوف من عذاب الله، ولا أن يأمن من مكر الله عز وجل ويطمئن إلى عمله أو يركن إلى طاعته، أو يأخذه الغرور والإعجاب بما هو عليه من الخير والصلاح والهداية، فبذلك تزل قدمه ويشقى، نسأل الله العفو والعافية.فالله تبارك وتعالى أثنى على هؤلاء، ويدخل فيهم الملائكة المقربون، والرسل المصطفون، فهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فكلٌ منهم يرجو أن يكون الأقرب، ويرجون رحمته ويخافون عذابه.ومما جاء في هذا المعنى قوله تعالى: ((
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ))[السجدة:16]، فهذا الذي نريده أن يتحقق جانب الخوف وجانب الطمع، وهو الرجاء، فهذه الآية ذكر فيها الحالان جميعاً.وكذلك قوله تعالى: ((
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ))[الزمر:9]، والخوف والحذر والوجل كلها معان متقاربة، وإن كان كل لفظ يذكر لنكتةٍ بلاغية يقتضيها السياق، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في موضوع الوجل والخوف، لكن الأصل في القضية هنا واحد، فهؤلاء جمعوا بين الجناحين اللذين يطير بهما المؤمن إلى مرضاة الله تبارك وتعالى، وهما الخوف والرجاء.فالله تبارك وتعالى يقول عن هذا القانت: (يحذر الآخرة) فلا يأمنها (ويرجو رحمة ربه) فلا يقنط ولا ييأس من رحمة لله تبارك وتعالى، وهذا هو حال العبد المؤمن دائماً.ومن ذلك قوله تعالى: ((
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ))[البقرة:201]، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -كما أخبر عنه خادمه
أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه في الحديث الصحيح- ممتثلاً لهذه الآية، فقد قال رضي الله عنه: (
كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ))[البقرة:201] )، فهذا يدل على أن حال النبي صلى الله عليه وسلم هو رجاء ما عند الله، وذلك بطلب الحسنة في الدنيا والآخرة وسؤال الوقاية من النار.وهذا الذي ذكره
أنس رضي الله تعالى عنه نحتاج إليه لنرد به على من يزعم من الضالين أن الله سبحانه وتعالى لا يعبده خوفاً من عقابه إلا من نقص إيمانه ونزلت مرتبته، وأن الخلص الكمل من العارفين يعبدون الله لذاته، لا يرجون جنته ورحمته ولا يخافون ناره وعقابه!